فصل: باب: صول الفحل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: صفة السوط وما فيه:

قال: "ويضرب المحدود بسوط بين السوطين... إلى آخره".
11232- الغرض من هذا رعاية الوسط في حجم السوط وصفته، وكيفية الضرب به، والإيلام لابد منه مع بناء الأمر على تجريد القصد إلى إبقاء النفس، وهذا يوجب التوسط، فإن الإفراط ينافي البُقيا، وقصد الإبقاء وترك رعاية الإيلام الناجع يبطل حكم الحد، ومجموع ذلك يقتضي التوسط.
وأول ما نبدأ به حجم السوط، ولا متعلّق فيه إلا اسم السوط، والقضيب المستدق ليس بسوط، والزائد الحد المعتبر عصا، فحدُّ السوط المعتاد معتبر. هذا قولنا في الحجم.
فأما صفة السوط بعد حجمه، فلا ينبغي أن يكون رطباً قريبَ العهد؛ فإنه يَفْطُرُ الجِلدَ لما فيه من ثقل المائية، وتلدّن المعاطف والغوص في البدن إذا اشتدّ، لو أطاقه. والخشبةُ اليابسة خفيفة، وهي على خفتها لا تنعطف، فيسقط الإيلام المطلوب بها وقد تتشظَّى. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقيم الحدّ على إنسان، فأتي بخشبة لم تكسر ثمرتُها، أي كانت قريبة، وعليها عُقَدُها التي هي منابت الغصون الدقيقة، فردّها، وقال: «هلاّ دون ذلك»، فأتي بخشبة خَلَقة، فقال صلى الله عليه وسلم: «فوق هذا» فأتي بخشبة لا جديدة، ولا خَلَقة، فأقام بها الحد.
11233- ثم ما ذكرناه في صفة السوط، من رعاية التوسط يُرعى في الضرب، فلا ينبغي أن يرفع الضارب يده إلى انتصابها بحيث تبدو عُفرة الإبط من شَيْله، حتى يكتسب السوط ثقلاً ورَزَانةً إذا أرسل، وفي كيفية الضرب، وأعمال الأصابع وإرسال رأس السوط، أو ما ينحدر عنه دقائق لسنا جاهلين بها، ولكن لا معنى لذكرها، وذكر التوسط كافٍ فيها.
ثم لا ينبغي أن تُشَدَّ اليدان من المحدود، بل تُتركان مطلقتين حتى يتقي بهما إن أراد، ويتقي الجلادُ المَقاتل، كالأخدع والقُرط، وثُغرة النحر، والفرج، ويتقي الوجه؛ فقد صح الخبر عن اتقاء وجوه البهائم، فما الظن ببني آدم، وقد كرمهم الله تعالى، والوجه مجمع المحاسن والحواس، ويترك الرجل قائماً، ولا يوالي بالسياط على موضعٍ من بدنه، ولا بأس بضرب الرأس عندنا، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لمن كان يقيم الحدّ اضرب الرأس، فإن الشيطان في الرأس، ومنع أبو حنيفة ضرب الرأس.
ولا يضرب في الحر الشديد، والبرد المفرط، فإن فعل فأدى إلى التلف، فنص الشافعي أنه لا يجب الضمان. وقد مضى هذا على أبلغ وجه في البيان.
ولو وقع الضرب بخشبة فوق الوسط أو فُرض تحامل مفرط في الضرب، فالذي نراه أنه يتعلق الضمان به، وليس كالضرب في الحرّ الشديد، فإن سبب نفي الضمان على القول الظاهر امتناعُ تأخير حدود الله تعالى إذا رأى الإمام ألاّ يؤخر، والزيادة على المطلوب في جِرم السياط خروجٌ عن المقدار المستحق، وكذلك القول في التحامل المفرط في الضرب.
والمرأة تُضرب جالسةً وتُربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف.
11234- ومما يجب الاعتناء به أن الضربات أصلها أن تكون متوالية، فإن فُرّقت، فكيف الوجه؟ وإلى ماذا الرجوع؟ إن فرّق الأسواط على الأيام، فكان يضرب في كل يومٍ سوطاً. قال القاضي: لا يعتد بهذا. والأمر على ما ذكره؛ فإن مقصود الحد من الإيلام الناجع الزاجر لا يحصل على هذا الوجه، وكذلك لا يحصل. التنكيل أيضاً، ثم لو أقام خمسين سوطاً وِلاءً في يومٍ، وأقام خمسين أخرى في يومٍ آخر، جاز.
وهذا الفصل فيه انتشار، والممكن في ضبطه: أنه إن ظهر سقوط أثر الألم لتفرق الأسواط على الزمان، كما فرضه القاضي من وقوعها آحاداً في أيامٍ، أو كان يقع سوطان في كل يومٍ، فهذا ليس بحد.
وإن كان المقدار الواقع مؤثراً، أي لم يتخلل من الزمان ما ينقطع فيه أثر الأول، فالظاهر إجزاء هذا؛ إذا تجمّع كونُ الواقع مؤلماً، وبقاء الألم إلى وقوع الآخر.
وإن كان الواقع مؤلماً وتخلل من الزمان ما يُسقط أثر التألم بالأول، فهذا محل التردد. ظاهر كلام القاضي أن ذلك حدٌّ معتدٌّ به.
والوجه عندنا أنه لا يعتدّ به إذا انقطع أثر الأول؛ فإن التتابع والوِلاء لو عُدِّل بالأسواط، لبلغ أثره عدداً منها صالحاً، ففي ترك الموالاة إسقاط جزء من الحد. وما ذكره القاضي محتمل أيضاً، وفي كلامه إشارة إلى الخمسين، فإن كان يتشوف بذكرها إلى أن الخمسين حدٌّ كامل، فهذا الفن يدِق مُدركه، ولا ينبغي أن يُتشاغل بمثله؛ فإن الأمور في الكليات لا تنطاع من التضيّق والضبط، وشرطُ الفقه ألا يطلبَ من كل شيء إلا ما يليق به، والتقدير من موضع غايةُ المطلوب فيه التقريبُ وإبانةُ مسلك الاجتهاد لا يحسن.
فإن قيل: لو حلف الرجلُ ليضربنّ فلاناً مائة سوط، ثم إنه فرّق عليه السياط في الأيام، يَبَرّ في يمينه، فهلاّ وقع الاكتفاء بتحصيل الاسم في الحدود؟ قلنا: تعويل الأيمان على موجَبات الألفاظ، والتعويل في فهم معاني التكليف على المقاصد. وقد ظهر من مقصود الشرع أن الغرض من الحد الزجر والتنكيل على قدرٍ يقرب من الفهم، فيجب اعتباره.
فصل:
قال: "ولا يبلغ بعقوبةٍ أربعين، تقصيراً عن مساواته عقوبة الله تعالى في حدوده... إلى آخره".
11235- التعزيرات لا مبالغ لها تقديراً من الشارع، ولكن يتطرّق إليها في جهة الأقصى مردٌّ يُنتَهى إليه، ويتخذه المجتهد شوفَه بين يديه، فالذي تمهد في الأصل أن التعزير لا يُبلغ به الحدّ، كما أن الرضخ لا يبلغ به السهم في المغنم، والحكومة لا تبلغ الدية.
ثم اختلف طرق أئمتنا في المبالغ التي نجعلها شَوْفنا في الاعتبار: فقال قائلون: يُحط أعظم التعزيرات عن أقل الحدود، وقال آخرون: يُنسب مقتضى كل تعزير إلى ما يقتضي الحدّ في قَبيله، حتى إن كان ما صدر من الإنسان هي مقدمات الزنا، فالتعزير فيما جاء به محطوط عن حد الزنا، وإن عرّض بقذف، أو قذف من ليس محصناً، فتعزيره محطوط عن حدّ القذف، وإن فرض ملابسةٌ لأسباب الشرب، فالمعتبر الذي إليه الرجوع حدّ الشرب، وهذا فقهٌ حسن.
توجيه الوجهين: من قال يُحط أبلغ التعزيرات عن أقل الحدود، احتج بأن قال: أعظم الأشباه بالإضافة إلى أقل أسباب الحدود محطوط عنه، وإنما توجد العقوبات من موجباتها، ومن يصير إلى الوجه الثاني احتج بأن النِّسب حقها أن تقرر باعتبار كل نوعٍ بالغاية المطلوبة فيه أولى، ولذلك تعتبر كل حكومة بحسب الجناية على عضو بما يجب الأرش المقدّر في ذلك العضو، على تفاصيلَ انتجز شرحها في الديات.
وما ذكره ناصر الوجه الأول من أن ما يوجب أقلَّ الحد أعظمُ مما يوجب أبلغ التعزيرات ليس كذلك؛ فإن منازل الزلات والجرائم لا يُتلقَّى من هذا، ورب شيء هو أكبر من كبار موجبات الحدود لا يحدُّ في قبيله، كأكل مال اليتامى ظلماً، وكإمساك المولّي حتى يُدركه قاصدُه، فيقتله، فلا يشك ذو تحصيل أن ما ذكرناه أبلغ من قطرةٍ من خمرٍ يتعاطاها ولوعٌ بها مذمّم في نفسه.
التفريع:
11236- إن حكمنا بأن أبلغ التعزيرات محطوط عن أقل الحدود، فأقل الحدود حدُّ الشرب، فليحط التعزير عنه، ثم اختلف أصحابنا إذا كان المعزَّر حرّاً، فمنهم من قال: يحط تعزير الحر عن حدّ الحرّ، وهو أربعون، ويحط تعزير العبد عن حدّ العبد في الشرب، وهو عشرون. ومن أصحابنا من قال: أبلغ التعزيرات محطوط عن عشرين؛ فإنه أقل الحدود على الجملة، وهذا الوجه إن كان ضعيفاً في طريق المعنى، فإنا سنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الفصل ما يعضده.
وإن فرّعنا على أن كلَّ تعزيرٍ معتبر بالحد الذي يناسبه، فيعتبر تعزير الحر بحدّ الحر، وتعزير العبد بحد العبد بلا خلاف، فإنا إذا كنا نرعى تقارب الأسباب في السبب، فاعتبار الأشخاص المعزرين أولى.
والذي نراه أن تعزير من يتعلّق بأسباب السرقة يجب أن يعتبر بأبلغ الحدود الواقعة بالجلد، وهو حد الزنا؛ فإن القطع أبلغ من مائة جلدة.
11237- ثم قال الأئمة بعد ذلك: ليس للإمام أن يبتدر الضربَ بل نرعى في ترتيب التأديب من التدريج والاكتفاء بأقل المراتب ما يرعاه الدافع في الاقتصار على حاجة الدفع، حتى إن علم أن التوبيخ بالكلام كافٍ، اكتفى به. وإن لم يره ناجعاً ترقى إلى التعنيف فيه، ثم يرقى من هذه المرتبة إلى ما يرى من حبسٍ، أو دفعٍ في الصدر، أو ما جرى هذا المجرى، ثم هكذا إلى أن ينتهي رأيه.
ومن آداب الإمام في ذلك، أن يتوقَّى هيجه وغضبه ويتأتَّى لما يأتي به مُعْمراً إشفاقاً، واستصلاحاً للمؤدَّب. وقصة عُمر في ذلك مشهورة: إذ رفع دِرّته لمن كان يبذُؤ بلسانه على صاحب له، فأطلق المعزَّر لسانه في عمر غير شاعرٍ به، فردّ الدرّة، حتى روجع في ذلك، وقيل: تعرّض لرجلٍ من آحاد المسلمين، فهممتَ به، وأساء القولَ في أمير المؤمنين ووَزَرِ المسلمين، فكففتَ عنه، فقال: "أما إني رفعتها لله، فمَن ابن أم عمر حتى يُنتَقمَ له مع الانتقام لله "؟ وأشار بهذا إلى ما لحقه من مبادئ الغيظ.
وقد روي من صفح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفوه ما يظهر حملُه على قريب ممَّا ذكرناه. وهو مثل ما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في سفرٍ على بعيرٍ فجاء أعرابي، فجذب رداءه، حتى أثرت جذبته في عنقه، وقال: احملني؛ فإنك لا تحملني على بعيرك ولا بعير أبيك " فقال أبو هريرة: فهممنا به كالخيل من الحديد نبغي قتله، فقال عليه السلام: «عزمت على من سمع كلامي أن يثبت مكانه»، فوقفنا، وأيدينا على مقابض السيوف ننتظر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا أسامةَ بن زيد، وقال: «احمله على بعير الزاد» ولم يعزره. وقصة الرجل الذي خاصم الزبير في سقيه بستاناً مشهورة، وهي محمولة على ما ذكرناه.
11238- ومن أهم ما يجب الاعتناء به، فهمُ سؤال مع الجواب عنه. فإن قيل: لَمْ يقف بعضُ العلماء في التعزيرات على موقف، حتى رأى مالكٌ القتلَ تعزيراً، وهذا يوافق ظن مَنْ لا يدق نظره إلى الإيالة التامة؛ فإن الهَنة التي تصدر من آحاد الناس في الخطر لا يدرؤها جلدات نكال، سيّما وقد بعد العهد، وتمادى الزمن، ولا يزداد المستأخرون إلا شرّاً.
قلنا: لا مزيد على ما ذكرناه. والسؤال برعاية الإمام وكلاءته؛ فإنه إن أحسن إقامة الضوابط، وألزم نفسه الاطلاعَ، ومهَّد طرقَ تقاذف الأخبار إليه، وعضد كلَّ قُطرٍ بقوّامٍ به، وتقدم إلى أصحاب الأعمال، إذا بدا من الناس ما يستوجبون الآداب به أن يعزّروا، ولا يتسامحوا، وإن تكررت الهَنات تكررت الجلدات، فهذا كافٍ، وإنما الشرّ كله في الإهمال، وقطع عين المراقبة عن الناس، وإن تألّبت طائفة، وسلّت يدها عن الطاعة، رُدّت إلى الطاعة بغرار السيوف.
ولو كانت قضايا الشرع تختلف باختلاف الناس، وتناسخ العصور، لانحلّ رباط الشرع، ورجع الأمر إلى ما هو المحذور من اختصاص كل عصر ودهر برأي. وهذا يناقض حكمةَ الشريعة في حمل الخلق على الدعوة الواحدة، ولما ذكر صاحب التقريب مقالات الأصحاب في التعزيرات ومبالغها روى عن أبي بُردة بن نِيار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجلد فوق العشرة إلا في حدّ». قال صاحب التقريب: هذا خبرٌ صحيح، لو بلغ الشافعي، لقال به، وقد صح من أقوال الشافعي أن من يبلغه مذهبٌ منه، ويصح عنده خبر على خلافه، فحق عليه أن يتّبع الخبر، ويعتقدَ أنه مذهبُ الشافعي؛ فإنّ كل ما أطلقه في المسائل مقيد باستثناء الخبر، وكأنه لا يقول قولاً في واقعه إلا وهو مصرّح معه بأن الأمر كذلك إن لم يصح خبرٌ على خلافه.
11239- ثم قال الشافعي، في آخر الباب: "لا تقام الحدود في المساجد "
وهو كما قال، وسيأتي، إن شاء الله، هذا وأمثاله في آداب القضاء. روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلَّ سيوفكم».
ثم عقد الشافعي باباً مترجماً بقتال أهل الردّة، مضمونه ثلاثة أشياء: أحدها: أحكام الردة، وقد مضت في باب مفرد، والآخر- مقاتلة أهل الردة إذا اجتمعوا، وقد مضى هذا في أثناء قتال أهل البغي، والثالث: يحثّ على البداية بهم، وهذا بيّن، وليس على هذا الإطلاق، فقد يطأ الكفار طرفاً من بلاد الإسلام، ولو لم نَطِر إليهم، لخفنا فتقاً لا يُرقع، فلتقع البداية بالأهم.

.باب: صول الفحل:

قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا طلب الفحل رجلاً... إلى آخره".
11240- البهيمة إذا صالت على إنسان، وعلم المصول عليه أنها لا تدفع إلا بما يهلكها، ويأتي عليها، دفَعَها، واقتصر على مقدار الحاجة في دفعها، فإن كانت لا تدفع إلا بما يقتل، قتلها، وكانت هدراً غير مضمونة، خلافاً لأبي حنيفة.
وكذلك إذا صال آدمي على إنسان، فإنه يتولى دفعه بالأيسر فالأيسر، فلو لم يتأت الدفع إلا بالقتل، قَتَل، ولا ضمان. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في صيال الصبي والمجنون. فقال في رواية: لو أهلكهما في الدفع، كانا مضمونين، وقال في رواية: لا ضمان على الدافع؛ لأن فعلهما لو تم، لتعلّق الضمان به. بخلاف فعل البهيمة.
ومعتمدنا في المذهب أن البهيمة بصيالها صارت مستحقَّةَ القتل بصيالها، فقامت مقام السبع الضاري، والكلب العقور.
ولو اضطر في المخمصة، واقتضت الضرورة إتلافَ بهيمة الغير، والأكلِ منها، فالإهلاك سائغ، بل واجبٌ لإحياء المهجة، وضمانُ البهيمة واجب على المضطر، فإن البهيمة لم تتصف بما يسلّط على إهلاكها، بخلاف الصائلة.
ولو رَبَضت بهيمة على باب بيت فيه زادٌ لإنسان، وقد ظهرت الحاجة، ومست الضرورة، ولا وصول إلى البيت إلا بإتلاف البهيمة، فلا شك أنه يُتلفها، وفي ضمانها وجهان:
أحدهما: أنه يجب كما لو أتلفها للمخمصة، وأكل منها.
والثاني: لا يجب الضمان لوقوفها وربوضها على سبيله الموصل إلى الزاد.
ولو كان الإنسان في طريقه عابراً، وسطقت جرّةُ أو ما في معناها في ملك إنسان واستوت على رأسه، ولو لم يكسرها، لأهلكته أو خيف عليه منها، فإذا كسرها، فللأئمة أصلان في ذلك، فقال قائلون: كسرها بمثابة قتل البهيمة الصائلة، وقال آخرون: يجب الضمان، وإن ساغ الكسر؛ لأنه لا اختيار لهذا الساقط على سمت رأسه. ولاختيار الحيوان أحكام لا تُنكر.
11241- ثم تكلم الأئمة فيما يجب من الدفع، وفيما يسوغ، فنستتم ذلك، ثم نخوض بعده في إيضاح تدريج الدفع، فنقول: إذا قصدته بهيمةُ إنسانٍ، وصالت عليه، وجب عليه دفعها، وإن كان الدفع يأتي عليها، ولا يجوز أن يستسلم للتهلكة، ولا بُعدَ في هذا، ونحن نوجب قتل البهيمة الضارية بالإهلاك، وإن لم تكن صائلة في وقتها، لقطع توقع الصيال منها.
ولو صال مرتد أو حربيّ على مسلم، لم يحلّ له أن يستسلم، ويؤثر الهلكة؛ فإنه لا حرمة للصائل، والاستسلام لهما ذلٌّ في الدين.
11242- ولو كان الصائل رجلاً مسلماً محقون الدم، فهل يجوز الاستسلام للهلكة؟ وكيف السبيل فيه؟ اختلف النص، وحاصل المذهب في أصل التمهيد قولان:
أحدهما: أن الاستسلام غير جائز؛ فإن المهجة المصول عليها محترمة، والشخص الصائل ظالم ساقط الحرمة، فيجب إيثار الذب عن المهجة المحترمة، ولا يسوغ بذلها لشخص ساقط الحرمة.
والقول الثاني- يجوز الاستسلام، ومعتمده الأخبار الصحيحة، ومنها ما روي عن حذيفةَ بنِ اليمان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة: يا رسول الله لو أدركني ذلك الزمان، فقال: ادخل بيتك، واخمل ذكرك، فقال: أرأيت لو دخل بيتي؟ فقال: إذا راعك بريق السيف، فاستر وجهك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل". وفي بعض الأخبار: "ولأن تكن خير ابني آدم " عَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل. وصح عن عثمان رضي الله عنه: "أنه استسلم يوم الدار، وقال: لا أحب أن يراق فيّ مِحْجَمة دم"، وكان معه في الدار أربعمائة من الغلمان الشاكين السلاح، فقال: "من ألقى سلاحه، فهو حر".
فإذاً لاح في الدفع وإن أفضى إلى القتل، وفي الاستسلام قولان:
أحدهما: أنه محرّم، والثاني: غير محرّم.
ثم اختلف أصحابنا في تأويل هذا القول، فمنهنم من قال: الاستسلام جائز، ومنهم من رآه مندوباً إليه مستحباً، وإليه إشارة الأخبار في استحسان الإيثار، وإن أدى إلى هلاك المَؤْثر، وهو شِيمُ الصالحين، ويتصوّر من أوجه، يدل البعض منها على الكل. فإذا اضطُر الرجل، وانتهى إلى المخمصة، ومعه ما يسدّ جوعته، وفي رفقته مضطرٌ فآثره بالطعام، فهو حسن، وكذلك القول في جملة الأسباب التي تتدارك بها المهج، ولا خلاف أنه لا يحل إيثارُ بهيمةٍ، وكيف يظن الظان هذا، ويجب قتل البهيمة لاستبقاء المهجة.
11243- ولو كان الصائل على الإنسان مجنوناً أو مراهقاً، فمعلوم أنه لا يبوء واحدٌ منهما بالإثم، ولو استسلم للقتل، وللأصحاب طريقان فيهما: منهم من لم يجوّز الاستسلام، ونزلهما منزلة البهيمة في هذا المقام، واستمسك بما أجرى الله تعالى ذكره في قصة هابيل؛ إذ قال عز وجلّ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك} [المائدة: 29].
ومن الأصحاب من أجرى قولي الاستسلام في الصبي والمجنون؛ لأن المعنى المتبع في ضبط هذا القول محاذرة الزيادة على قدر الحاجة في الدفع، والصائل آدمي محترم، وهذا المعنى يتحقق، وإن كان الصائل لا يبوء بالإثم، وأيضاً فإن للقتيل القرب من مرتبة الشهادة، وهذا المعنى يجري في الصبي والمجنون إذا صالا.
11244- وأما الذميّ إذا كان هو الصائل، فالوجه الدفع؛ فإنه لا يجوز الاستسلام، وإن كانت الذمة توجب حقن دمه؛ لأنه بصياله ناقصٌ عهده؛ فتسقط حرمته، ويبقى كافراً صائلاً على مسلم، فإن قيل: أليس من الأصحاب من يقول: لا تنتقض الذمة بالقتل؟ قلنا: ذلك وجه ضعيف، ثم لا حرمة للذمة حالة القتال، والصيال. وعلى الجملة الاستسلام للكافر ذُلّ.
11245- وتمام البيان في هذا أنه كما يدفع الصائلَ عن نفسه كذلك يدفعه عن قريبه وحميمه، وعن الأجنبي منه. وهل يجوز له ترك الذبّ، أم يجب عليه أن يبذل وسعه في الدفع عن غيره؟ فيه تردّدٌ للعلماء، وهو من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي اختاره المحققون من الفقهاء أن ذلك يجري في حق الغير مجراه في حقه، لو كان هو المصول عليه.
ويخرج من هذا وجوب الدفع عن الغير في قولٍ، وتحريمُ تركه.
وعلماء الأصول اضطربوا في هذا، فذهب المحققون منهم إلى أن هذا محتوم على الولاة وأصحاب السيوف المرتصدين للذب عن الدين، فأما آحاد الناس، فلا يلزمهم هذا، ثم منهم من لم يجوّز شهرَ السلاح للدفع عن الغير، ومنهم من جوّزه فلم يوجب.
وهذا لا يختص أثره بصول الإنسان على غيره قاصداً قتله، فمن كان مُقْدماً على محرّم، فيمنع منه، فإن أبى، دُفع عنه، فإن أتى الدفعُ عليه، فهو على التفصيل الذي ذكرناه، حتى قيل: لو رأى رجلاً يرضّ رأسَ شاة الغير وقدر أن يمنع، فإن أبى، دُفع، ثم الدفع لا موقف له إلا إهلاك القاصد. وكذلك لو كان يتعاطى الشرب أو غيره من المنكرات، فالقول على ما ذكرناه.
والخارج من النظم أن السلطان لو دفع-من ارتكب أو هم بارتكاب هذه لماثم- دفعه بالرّد إلى الطاعة، وأما آحاد الناس، ففي الفقهاء من يسلّطه على ذلك، وهذا لا يرتضيه الأصوليون. إلا أن قُربَ خطر الشرب؛ من حيث إن قصاراه لو استتمه جلدات، فإن أمر الدفع لو صح لا يؤخذ من هذا المأخذ؛ فإن الإنسان- كما سنذكر إن شاء الله تعالى- يذب عن ماله، والعبد يذبّ سيدَه عن نفسه، وإن كان قتلُ السيد إياه غيرُ موجب ضماناً عليه في قودٍ ولا قيمة. ولكن تمكين الناس من السيوف يجرّ خبلاً عظيماً.
11246- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الإنسان يدفع عن نفسه بكل وجهٍ والكلام في وجوب الدفع. وهذه مرتبة.
والمرتبة الأخرى- في الدفع عن الغير وهو مقصود بالقتل، أو بفاحشة الزنا، وهاهنا افتراق الفقهاءِ وأربابِ الأصول، كما قدمناه، وفي مسلك الأصوليين رمزٌ إلى موافقة الفقهاء.
المرتبة الثالثة- في الدفع عن المنكرات والمحرّمات جُمَع سوى ما ذكرناه، والأصوليون مطبقون على أنه لا يجوز لآحاد الناس شهرُ السلاح، وذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه لا مبالاة بشهر السلاح إذا اقتضت الحاجة إليه. وهذا نجاز القول في هذا الأصل.
11247- وإذا كان المصول عليه يدفع عن نفسه، وقد قلنا: إنه لا يجوز له أن يستسلم، فإن استمكن من الوصول إلى الخلاص بالهرب، فقد اختلف أصحابنا الفقهاء في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز المكاوحة مع إمكان الهرب، فإن الغرض الخلاصُ بالأهون فالأهون، وإذا أمكن الهرب، فلا شيء أسلم منه.
ومن أصحابنا من قال: يجوز الثبوت، ودفع الصائل، وهذا يُوجَّه بأن الصائل يبغي إزعاجه عن مكانه، فله ألاّ ينزع، ثم يجر ذلك الدفعَ وارتفاعَ الحرجِ فيه.
والوجهان يجريان على جواز الاستسلام أيضاً؛ فإنا أجريناهما على تحريمه، غير أنا إذا جوزنا الاستسلام، فالأوجه وجوب الهرب حتى لا يهلِك، ولا يورّطَ صاحبه في التسبب إلى الهلاك.
11248- والذي قطع به الأئمة، أنه يجوز للإنسان الذبُّ عن ماله كما يذب عن مهجته. وقال بعض الأئمة: للشافعي في القول القديم أن الدفع عن المال إذا كان لا يتأتى إلا بقتل القاصد أو إتلاف عضو من أعضائه، فلا يجوز دفعه، وهذا وإن أمكن توجيهه في القياس، فهو بعيد في الحكاية.
11249- وقد حان أن نبتدىء القولَ في تدريج الدفع. قال الأئمة: ينبغي أن يقع الدفع بالأهون فالأهون، حتى إن أمكن الدفع بالكلام، فلا مَعدل عنه، وإن أمكن الدفع بالَّلكْم، فلا يعلو بالسوط، ولا ينتقل عنه إلى العصا والمثقّلات. ثم بعد ذلك كله يَشْهَر السلاح.
ثم إذا قلنا: الاقتصار على الدفع، فلو كان الصائل يندفع بسوطٍ-لو كان- فلم يجده المصول عليه، ولم يشتمل إلا من سيفٍ أو سكين، ولو حذفه بالسيف، لقتله، فهذا فيه تردد؛ فإن الدفع ممكن من غير قتل. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: ليس يتأتى منه الدفع والحالة هذه إلا بما يجد، ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب السوط. والدليل عليه أن البصير الماهر بالسلاح يدفع صيال الصائل بوجوه لا تأتي على الصائل، ولا يستمكن منها كل أحد. ثم عدم الإحاطة بتلك الوجوه في الدفع لا يسبب ضماناً على الدافع المقتصر على ما يحسنه، والأمر كذلك إذا لم يجد إلا آلة يعظم أثرها.
وقد تمهد ابتدار الصائل، ووجوبُ الدفع، وجوازُه، ورعاية التدريج في الدفع.
وألحق الأئمة بهذا الفصل الأخير من استلب مالاً، وولّى، فاتّبعه صاحب المال، فإن ألقاه، لم يتبعه، ولو اتّبعه، وضربه، ضمن، وإن تشبث بذلك المال المسلوب، يجاذبه، فجرّ الأمرُ مكاوحةً، فهو قصدٌ ودفع كما ذكرناه.
فصل:
قال: "ولو عضه كان له فكُّ لِحييه... إلى آخره".
11250- إذا عضّ رجل عضواً من إنسان، فله أن يسلّها، وإن كانت تندُر ثناياه، وإنما فُرض البناء على هذا الفصل لورود خببر فيه. وروي: "أن رجلاً عض يدَ رجل، فانتزعها فندرت ثناياه، فارتفعت القصّةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنايا العاض، وقال له: أيدع إصبعه في فيك تقضمها، كأنه في في فحل " فإن لم يتأت منه سلُّ العضو، فله أن يعمد فكَّه بما يفكه، حتى يخلِّيه، فإن لم يستمكن من الخلاص إلا باستعمال السلاح في العضو الجاني، فليستعمله، وإن كان لا يتأتى الخلاص إلا باستعمال السلاح في غير ذلك العضو مثل أن يعض العاض على قفاه، بحيث لا تناله يداه، ولا يجد مخلصاً إلا بوضع السكين في بطنه، فالأصح أنه يفعل ذلك، وإن خطر لذي خاطر أن منتهى عضِّ العاض خدشٌ وإيلام، فلا نظر إلى هذا، وقد مهدنا جواز قتل من يقصد إنساناً في الدفع عنه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني. وهذا الوجه وإن كان مشهوراً في الحكاية، فلا أصل له، والذي أراه أن ينزّل فيه إذا كان القصد من الجاني لا ينتهى إلى قتلٍ أو فساد عضو. فإن كان ينتهى إلى ذلك، وكان لا يتأتى تخصيص العضو الذي منه الجناية بالدفع، فالوجه القطع بتسليط المصول عليه على الدفع الممكن، وإن ظن ظان أن الوجه الذي حكيناه يوجب أن يخص يدَ الصائل بالدفع إذا احتوت على قبيعة السيف، فهذا خطأ في ظنه، فإن الضرب بالسيف وإن كان صادراً من اليد، فالتحامل مضاف إلى جملة البدن، والرِّجل تلي اليد في حاجة الإقدام، فذلك الوجه إذاً يختص في العضو أو القبض باليد على عضوٍ، بشرط ألا يؤدي إلى الهلاك، أو إفساد عضو.
فصل:
قال: "ولو قتل رجل رجلاً فقال: قد وجدته على امرأتي... إلى آخره".
11251- مضمون هذا الفصل يتعلق بأمرين:
أحدهما: أن من وجد رجلاً كما وصفناه، وحاول دفعه، فأبى، فيتعلّق هذا بالدفع والصيال، كما تمهّد، فإن أتى الدفع عليه، كان هدراً، بكراً كان أو ثيباً، هذا إذا اتصل الأمر بالقصد والدفع.
فأما إذا وجده بعده، فقتله، فإن كان رآه على حقيقة الزنا، وكان ثيباً، فهو هدر، وإن كان بكراً، وجب القصاص على القاتل، وإن اعترف بقتله، وادعى ما ذكرناه وكان محصناً، فإن لم يصدقه ولي القتيل، وأمكنه أن يُثبت الزنا ببينةٍ، فليفعل، وإلا فالقصاص واجبٌ عليه.
وأبو حنيفة يقول من قتل زانياً محصناً من غير إذن الإمام، لزمه الضمان، والمسألة مذكورة في الخلاف. وقد قيل: لما نزل قوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] قال سعد بن عبادة: "أرأيت لو وجدت رجلاً مع امرأتي قدَدْتُه بالسيف نصفين، قتلتموني أو تركتموني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من غيرته، والله، لله أغير منه، ولأجله حرّم الفواحش».
فصل:
قال: "ولو تطلع إليه رجل من ثقب، فطعنه بعود... إلى آخره".
11252- إذا تطلّع رجلٌ من صِير بابٍ أو كوةٍ إلى حُرَم إنسان في الدار، ولا شبهة للناظر، فلا شك أن الذي جاء به جناية، وقد ثبت جواز قصد عينه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فلو رمى إليه بمِدْرى أو حجرٍ صغير، مثل حصا الخذف، فأصاب عينه، وأعماه، كان هدراً. هذا مذهب الشافعي.
والمعتمد عنده في ذلك، ما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الحجرة، وكان بيده مِدْرى يحك بها رأسه، فتطلّع إليه رجل من صِير بابه، وقال: لو علمت أنك تنظرني أو قال: تطرفني، أو قال: تنتظرني، لطعنت بها في عينك، وإنما جعل الاستئذان لأجل البصر، وروي أنه كان يخاتله النظر، ليرمي عينه بالمدرى قال الراوي: أو كأنه لا يبالي لو لم يصرف عينه أن يَطْعَن بها في عينه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من اطلع إلى قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه، فلا قود، ولا دية». هذا معتمد المذهب.
11253- ثم الغرض من الفصل ينتجز ببيان فصولٍ: منها- أنا نشترط أن يكون الناظر قاصداً في نظره، فلو وقع بصره وفاقاً، ولم يتبين أنه جرّد قصده إلى النظر، أو إدامتِه، فلا يجوز قصدُ عينه.
ومنها ألا يكون صاحبُ الدار مقصّراً، حتى لو كان باب الدار مفتوحاً، فنظر الناظر منه، لم يجز قصدُ عينه، فإن التقصير من رب الدار، وكذلك لو كان انهدم شيء من جدار الدار، فنظر ناظرٌ من تلك الثُّلمة، فلا يجوز قصدُ عينه.
فأما النظر من صِير الباب، ومن كوة يُعتاد مثلها، فهو النظر الذي يسلّط على قصد العين.
ومما نعتبره ألا يكون للناظر في الدار حُرَم، فإن كان، فلا يجوز قصد عينه، وإن كان لا يجوز له أن ينظر لجواز أن يكون في الدار حُرَمٌ لمالك الدار، ولكن ما له من الشبهة أسقطَ جواز قصد عينه.
واختلف أصحابنا في صورتين: إحداهما- أنه لو لم يكن في الدار إلا صاحب الدار، أو رجالٌ معه، فإذا نظر الناظر، ففي جواز قصد عينه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، ووجهه بيّن؛ إذ لا حُرم.
والثاني: يجوز؛ فإن النظر حرام، وإن لم يكن حُرَم؛ إذ الرجل قد يكون منكشفاً، وقد يريد أن يكون آمناً من الاطلاع عليه، فينبغي أن يُحسمَ الباب، والأحاديث المسلِّطة على جواز قصد العين ليست مقيَّدةً بالحُرَم.
هذه واحدة.
والصورة الأخرى- أن يكون في الدار حُرَم، ولكن اتفق كونُهن متسترات ببيت أو غيره، ولم ينته اطلاع الناظر إليهن، فهل يجوز قصد عينه والحالة هذه؟ فعلى وجهين، والأظهر هاهنا الجواز، لاشتمال الدار على الحُرم، ولا يدري أن الاطلاع قد يتفق وحالة التستر هذه.
وهذه الصورة إذا ضمت إلى الأولى انتظم منهما ثلاثة أوجه: أحدها: جواز القصد، والثاني: منع القصد مطلقاً، وإن لم ينته النظر إلى حرم، والثالث: الفصل بين أن يكون في الدار حرم، وبين ألا يكون.
11254- ثم إذا نظر الناظر حيث يجوز قصد عينه، فلا فرق بين أن يكون وقوفه في الشارع، أو في سكة منسدّة، أو يكونَ في ملكه الخالص، يعني ملك الناظر؛ فإن الجناية المردودة هي النظر، والنظر إذا امتدّ لم يختلف الأمر باختلاف موقف الناظر، ولا اعتذار له إذا ترك بصره منسرحاً إلى حرم غيره، بأن يقول: إني واقفٌ في ملكي، فيقال: فانظر إلى ملكك، وغُضَّ بصرك عن حرم الناس.
11255- ثم ما صار إليه الأئمة في الطرق أن النظر إذا استجمع الشرائط التي ذكرناها، فيجوز قصدُ عين الناظر من غير تقديم إنذار، وفي الخبر ما يدلّ على ذلك؛ فإنا روينا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاتل الناظر يرمي عينه بالمدرى؛ وفيه طرف من المعنى يليق بتمهيد الأصول، وهو أن الغرض من جواز قصد العين المنعُ من النظر، فإذا كان المنظور إليه يقدّم النذير، فينتحي الناظر، ثم يعود وقد قضى وطره من النظر بالنظرة الأولى.
وقال القاضي: الذي أراه أنه ينذره، ويزجره عن النظر أولاً، ويجب ذلك، فإن لم ينزجر، قصدَ عينَه حينئذٍ. وهذا عند القاضي خارج على قياس الدفع؛ فإنه مبني على التدريج، والبداية بالأهون، فالأهون.
وهذا الذي ذكره، وإن كان منقاساً، فليست المسألة مدارة على القياس، وإنما المتبع الأخبار، ولا تفصيل فيها، بل في بعضها ما يدل على جواز القصد من غير تقديم إنذار كما قدّمناه.
قال صاحب التقريب في غير النظر: كل من قصد أمراً يسوغ دفعه عنه، فهل يجب على المصول عليه أن يقدم إنذاره أم يبتدىء الدفعَ فعلاً؟ من غير تقديم إنذار بالقول؟ قال: هذا عندي مخرج على استتابة المرتد، وقد ذكرنا قولين في وجوب استتابة المرتد.
وهذا الذي ذكره مما انفرد به، ولابد فيه من تفصيل. وأما الأصحاب، أطلقوا أقوالهم بأن الدفع إن أمكن بالقول، فلا معدل عنه إلى الفعل، ثم التمسك في الأفعال بالأيسر، فالأيسر؛ فالوجه أن نقول: التعويل على الذي يكون تخويفاً أو زعقة على الصائل، إن أمكن الدفع به، فلا يجوز أن يكون في وجوب البداية به خلاف، والذي ذكره صاحب التقريب هو إنذارٌ لا يكون دفعاً في نفسه، ولكنه من قبيل موعظة أو ما يقرب منه، فانتظم إذاً في الإنذار في غير مسألة النظر كلام لصاحب التقريب، كما ذكرناه، وإن لم نوجب الإنذار في غير النظر، لم نوجبه في النظر، وإن أوجبناه في غير النظر، ففي وجوبه في النظر تردّد للأصحاب على ما حكينا طريقةَ الأئمة، واختيار القاضي.
ثم مما يليق بتمام ذلك أنا إن لم نوجب الإنذار في سائر وجوه الدفع، فلا كلام.
وإن أوجبناه، فتَرَكَه، وقَتَلَ الصائلَ، ضمنه، بترك تدريج الدفع، وليس كما إذا أوجبنا استتابةَ المرتدّ، فلم يستتب، وابتدر مبتدرٌ، فقتله؛ فإن الضمان لا يجب؛ من جهة أن الردة مُهدرة، وهي واقعةٌ، فجرّت الاستتابةَ ثَمَّ بعد الإهدار.
11256- ثم قال الأئمة: إذا جوزنا قصْدَ عينِ الناظر، فيجب ألا يزاد على ما يقصد بمثله العين، كبندقة أو حصاة خفيفة. وأما إذا رشقه المنظور إليه بنشابة، فهذا قتلٌ، وليس قصدَ عين، ولا شك في تعلّق القود والضمانِ به. نعم. لو كان لا يتأتى منه قصد عينه، وكان لا ينزجر عن نظره، فإنه يستغيث عليه، ويقطع نظره عن نفسه، فإن أبى، فحينئذٍ يدفع عن نفسه، ولا يتألّى بأن يأتي الدفع عليه.
11257- ولو وقف الواقف بباب دارٍ، وكان يسترق السمع، فلا يجوز أن يَقصِدَ أذنَه، بخلاف ما إذا نظر؛ فإنه في استراقه السمع ليس يطلع على عورة، وإنما المحذور اتصال النظر بالعورات. هذا ما لا يجوز غيره. وقد قطع به القاضي لما سئل عنه، وفي بعض التعاليق عن شيخي تنزيل الأذن منزلة البصر.
وهذا لم أسمعه، ولست أثق بمن علّق عليه ذلك فيما زعم، ولم أردّد هذا ليعتدّ به، ولكن نبهت على غلطةٍ عظيمة للعاثر عليه حقيقة.
فرع:
11258- إذا فتح رجل باب دار إنسان، ودخل داره، فلا شك أنه يُخرجه من الدار، فإن أبى، دفعه كما يدفعه عن ماله. ثم قال قائلون من أصحابنا: له أن يقصد عينه، لأنه متطلع ضامٌ إلى تطلعه هجومَه على الدار، وقال قائلون: يقصد رجله؛ لأنها المؤثرة، وإذا غلب أثرُ عضو خُصَّ بالدفع.
وهذا عندي كلام سخيف لا أصل له؛ فإنه دخل الدار ببدنه، فله قصدُ جملته. فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأصح قصدُ جملته، على التدريج المقدّم، ومن أصحابنا من أوجب تخصيص الدفع بالرِّجل. وهذا غلط. ومن جوّز قصد العين لا يوجب الاقتصار عليه وإنما الكلام في جوازه. فمن صائر إلى أنه يجوز، ومن صائر إلى أن تخصيص العين لا معنى له بعد ما ثبت دخوله، فهو الغالب، وعليه التعويل.
وهكذا يجب أن ترتب المسألة.